فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ}.
أي: كما نأكل: {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أي: يتردد فيها لشؤونه كما نمشي. قال الزمخشري: يعنون أنه كان يجب أن يكون ملَكًا مستغنيًا عن الأكل والتعيش. أي: فيخالف حالُه حالنا. قال أبو السعود: وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم، وقصور أنظارهم على المحسوسات. فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأمور نفسانية. كما أشير إليه بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون مَلَكًا، إلى اقتراح أن يكون إنسانًا معه ملَك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} ثم نزلوا أيضًا إلى اقتراح أن يرفد بكنز، إن لم يرفد بملك، فقالوا:
{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي: من السماء يستظهر به، ولا يحتاج إلى طلب المعاش، ويكون دليلًا على صدقه. ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه، فقالوا: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي: بستان يرتزق منه: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي: مغلوبًا على عقله. وقوله: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها. والتعجب منها. أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول: {فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أي: القدح في نبوّتك، بأن يجدوا قولًا يستقرّون عليه، أو فَضَلُّوا عن الحق فلا يجدون طريقًا إليه.
قال ابن كثير: كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال، حيثما توجه، لأن الحق واحد، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالُواْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الاسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}.
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام.
والضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصفة مراعىً كما تقدم.
وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثارُ الاستفهام.
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولًا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها.
وتركيب {ما لهذا} ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له، فاسم الاستفهام مبتدأ و{لهذا} خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله.
فجملة: {يأكل الطعام} جملة حال.
وقولهم: {لهذا الرسول} أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال.
والإشارة إلى حاضر في الذهن، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول.
وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعًا منهم إلى إبطال كونه رسولًا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20].
ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا}.
وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه.
و{لولا} حرف تحضيض مستعمل في التعجيز، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه.
وانتصب {فيكونَ} على جواب التحضيض.
و{أو} للتخيير في دلائل الرسالة في وهَمهم.
ومعنى {يلقى إليه كنز} أي ينزل إليه كنز من السماء، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم.
والإلقاء: الرمي، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء.
والكنز تقدم في قوله تعالى: {أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} في سورة هود (12).
وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة.
وقرأ الجمهور: {يأكل منها} بياء الغائب، والضمير المستتر عائد إلى {هذا الرسول}.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {نأكل منها} بنون الجماعة.
والمعنى: ليتيقنوا أن ثمرها حقيقةٌ لا سحر.
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونُبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج، والنضر بن الحارث، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها.
قال ابن عطية: وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك.
وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء.
وكتبت لام {مال هذا} منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه، كما كتب {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} في سورة الكهف (49)، وكما كتب: {مال الذين كفروا قبلك مهطعين} في سورة سأل سائل (36)، وكما كتب: {فمال هؤلاء القوم} في سورة النساء (78).
ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلًا بعضها عن بعض ولاسيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتّاب المصحف أثارة من ذلك، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم.
وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينًا للرسم وتسهيلًا لتبادر المعنى، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح.
وأكثر ما وصلوا منه هو الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل ال.
{وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}.
الظالمون: هم المشركون، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيهًا على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم، وصلى الله عليه وسلم.
ذكر الماوردي: أن قائل: {إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} هو عبد الله بن الزِّبَعْرَى، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به.
والمسحور: الذي أصابه السحر، وهو يورث اختلال العقل عندهم، أي ما تتبعون إلا رجلًا أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء.
وذِكْر {رجلًا} هنا لتمهيد استحالة كونه رسولًا لأنه رجل من الناس.
وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور.
وقوله: {انظر} مستعار لمعنى العلم تشبيهًا للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه.
و{كيف} اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام.
وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم، ففعل {ضلوا} مستعمل في معنييه المجازيين هما: معنى عدم التوفق في الحجة، ومعنى عدم الوصول للدين الحق، وهو هنا تعجيب من خَطَلِهم وإعراضٌ عن مجاوبتهم. اهـ.